الاقتصاد السوري: هل يعيق غياب “الخطة الخمسية” والتمويل بالعجز مسار التعافي؟


الثورة – ووفاء فرج –

في ظل الجدل الدائر حول أفضل السبل لانتشال الاقتصاد السوري من أزمته، يطرح الخبراء خارطة طريق بديلة للحلول التقليدية كالخصخصة واللجوء إلى التمويل الدولي المشروط. هذه الخارطة، التي يصفها البعض بأنها “عبقرية”، تركز على إعادة هيكلة القطاع العام وتفعيل المدخرات المحلية، مستلهمة تجارب “النمور الآسيوية” الناجحة.
وتُعد الموازنة العامة للدولة الأداة الأساسية التي تعكس الرؤية الاقتصادية للحكومة، وتحدد أولوياتها في الإنفاق والاستثمار. وفي سورية، حيث يواجه الاقتصاد تحديات هيكلية ضخمة، يرى الخبراء أن غياب التخطيط الرشيد والاعتماد على سياسة “الإنفاق اليومي” والتمويل بالعجز، قد أدى إلى تآكل الثقة وشل قدرة القطاعات الحيوية على النمو.

الاقتصاد السوري بين “الإنفاق اليومي” و”الخطة الغائبة”
رئيس غرفة تجارة ريف دمشق الدكتور عبد الرحيم زيادة يرى أن الحكومة الحالية تواجه تحدياً خطيراً يتمثل في “عدم وجود خطة اقتصادية واضحة وشاملة”.
أرجع الدكتور زيادة غياب الخطة الاقتصادية إلى “الانشغال بالملف الأمني والعسكري في الشرق (قسد) والجنوب (السويداء)”.
وشدد على أن سيطرة “قسد” على 70% من النفط والغاز حالياً تشكل “عائقاً أمام وضع خطة اقتصادية شاملة”، مما يربط بشكل مباشر بين استعادة السيطرة على الموارد الحيوية والقدرة على التخطيط الاقتصادي المستدام.

قاعدة تشريعية للتفاؤل

على الجانب الإيجابي، أشار زيادة إلى أن الحكومة أجرت انتخابات نيابية ناجحة لتشكيل مجلس نواب منتخب مخول بإقرار قوانين جديدة وتعديل أو إلغاء القوانين القديمة، وهو ما يوفر “قاعدة تشريعية تمكن الحكومة من وضع خطة اقتصادية شاملة وشفافة”.
كما لفت إلى توقيع عقود استثمارية كثيرة في الفترة الماضية، تم البدء في تنفيذ بعضها، وسيبدأ تنفيذ الباقي قريباً في قطاعات متنوعة. واعتبر أن هذا التطور سيكون “عاملاً إيجابياً في تحقيق نمو اقتصادي جيد”، ويدعو إلى التفاؤل، خاصة بعد الحديث عن رفع العقوبات.

الإنفاق اليومي: مؤشر الفقر

انتقل الدكتور زيادة إلى تحليل ديناميكية السوق الداخلية، مشيراً إلى أن “الإنفاق اليومي المتواضع للأسر الفقيرة من ذوي الدخل المحدود يعدّ عاملاً حاسماً في تشكيل ديناميكية القطاعات الاقتصادية”.

وأوضح أن هذا الإنفاق يركز بنسبة 60% إلى 70% على الغذاء والطاقة، مما يعكس “حالة فقر معينة” ويؤدي إلى تبعات سلبية على النمو الاقتصادي. فالإنفاق اليومي المنخفض يقلل الطلب على المنتجات الزراعية غير الأساسية، كما أن قلة الطلب على السلع والاحتياجات الأساسية هي أحد مظاهر التركيز اليومي المنخفض في الإنفاق.

فرص قائمة للتحفيز

رغم التحديات، يرى زيادة أن هناك فرصاً قائمة لزيادة الإنفاق اليومي بشكل كبير، تتمثل في: جذب الاستثمارات الخارجية والمساعدات.
وزيادة فرص العمل وتوفير الطاقة بشكل مستدام.
و زيادة السياحة ، و انخفاض سعر الدولار (من 15000 ليرة سورية إلى 10000 ليرة سورية).

وختم بالتأكيد على أن هذه العوامل، إن تحققت، ستكون محفزاً قوياً لزيادة الإنفاق اليومي وتحقيق نمو اقتصادي ملموس.

الهدف ثابت.. الخطة متغيرة
النائب السابق لرئيس غرفة تجارة دمشق، محمد الحلاق، يرى أن أي خطة اقتصادية يجب أن تُبنى على أهداف محددة ومدروسة، مشدداً على أن الفشل في تحقيق الهدف يجب أن يدفع إلى تغيير الخطة وليس تغيير الهدف نفسه.
أوضح الحلاق أن المنهجية الاقتصادية السليمة تقتضي أن يكون الهدف “مدروساً وواقعياً وقابلاً للتحقيق”، بينما قد تخطئ الخطة أو الأفراد المنفذون لها.
وقال: “دائماً بالاقتصاد يقولون إذا لم تنجح الخطة، إذا أنت لم تحسن الوصول إلى الهدف، غيّر الخطة لا تغيّر الهدف”. وضرب مثالاً: “إذا كنت تنوي الذهاب إلى حلب لهدف محدد، ووجدت نفسك في درعا، يجب أن تصحح المسار وتغير الخطة للوصول إلى حلب، لا أن تبحث عما يمكن فعله في درعا”.
ويحذر الحلاق من أن العمل بعشوائية يؤدي إلى فقدان “الشغف” و”الرغبة” لدى الأفراد بتحقيق الأهداف، مما يسبب حالة من الضياع، ويجعل المسؤولين يبحثون عن “مبررات” بدلاً من معالجة فشل الخطة.

الحاجة إلى كفاءات متخصصة

يرى الحلاق أن سورية، بعد مرور عام على التحرير، يفترض أن تكون “بدرَاية أكثر” حول الأهداف الاقتصادية اللازمة، والتي يجب أن تكون قابلة للقياس والمحاسبة.
وشدد على أن الخطط يجب أن تُنفذ من قبل “كفاءات وأشخاص يعرفون كيف ينفذون الخطط”، مشيراً إلى أن التخصص ضروري: “في ناس بتحط أهداف بس ما بتعرف ترسم خطة، وفي ناس بتعرف ترسم خطة ما بتعرف تحط أهداف”.
وختم الحلاق تحليله بالتأكيد على أن الخطط يجب أن تكون “قابلة للتطبيق وذات مسار واضح وقابلة للقياس”، لأن “ما لا يمكن قياسه لا يمكن تنفيذه”، مما يضمن إدارتها بشكل صحيح ويجنب البلاد مزيداً من الفشل الاقتصادي.

وفي ظل المرحلة التي يصفها الخبير الاستشاري مهند الزنبركجي “بالاستعصاء الاقتصادي”، تضع القيادة السورية كل ثقلها لتحقيق اختراق يخرج البلاد من عنق الزجاجة. ورغم الجهود “الجبارة” التي تبذلها الوزارات وأجهزة الدولة للترويج للاستثمار وتعديل القوانين الاقتصادية، يرى الخبراء أن الأداء يفتقر إلى الخطة الموحدة، مما يهدد بتبديد هذه الجهود.

و أكد أن التحدي الأكبر يكمن في غياب التنسيق والرؤية الشاملة، مشيراً إلى أن كل وزارة تعمل وفق رؤيتها الخاصة دون وجود خطة استراتيجية متكاملة تضبط أداء الوزارات مجتمعة.

غياب الخطة الإسعافية يفاقم عدم الاستقرار

يشير الزنبركجي إلى أنه بعد مرور أحد عشر شهراً كاملاً، لا يزال الاقتصاد السوري يفتقد لوجود “خطة استراتيجية-اقتصادية-إسعافية-متكاملة”.

ويحذر الخبير من أن غياب خطة مكملة لتشجيع الاستثمارات الداخلية واستقطاب أموال المدخرين من المواطنين السوريين في الداخل والخارج، قد خلق “حالة شديدة من عدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي”، مما دفع المواطن المنهك إلى الإحجام عن الإنفاق إلا على الضروريات.

المطلوب: خبراء ميدانيون وخطة على المديين القصير والمتوسط

يؤكد الزنبركجي على أن الوقت لم يعد يسمح بـ “تجارب جديدة”، مشدداً على ضرورة التحرك الفوري بوضع خطتين متكاملتين:
اولا خطة إسعافيه متكاملة: لمدة سنة إلى سنة ونصف كحد أقصى، وثانيا خطة على المدى المتوسط: تمتد من سنتين إلى خمس سنوات.

ويشدد الخبير على أن تنفيذ هذه الخطط يتطلب الاستعانة بـ “خبراء تخطيط استراتيجيين مع خلفية قوية في إدارة الأزمات”، والأهم أن تكون لديهم “خبرة ميدانية عملية وليست أكاديمية فقط”، لضمان النهوض بالاقتصاد الوطني.

الإنفاق بين الاستثمار والرواتب
الخبير الاقتصادي والمصرفي الدكتور إبراهيم نافع قوشجي ، يرى أن الموازنة العامة ليست مجرد جدول أرقام، بل هي خطة مالية سنوية تحدد السياسة المالية للدولة، وتعكس أولوياتها في الاستثمار والخدمات العامة.
ميز قوشجي بين نوعي الإنفاق الحكومي وتأثيرهما: الإنفاق الاستثماري ، الذي يوجه نحو مشاريع البنية التحتية، التعليم، الصحة، والصناعة، وهو ما يخلق فرص عمل ويزيد من الطاقة الإنتاجية للاقتصاد على المدى الطويل.
و الإنفاق الجاري ،الذي يشمل الرواتب، الدعم، والخدمات التشغيلية، وهو ضروري لاستمرار عمل مؤسسات الدولة لكنه لا يضيف بالضرورة قيمة إنتاجية طويلة الأمد.

التمويل بالعجز يرفع الضرائب ويغذي التضخم

شدد قوشجي على أن إعداد الموازنة بمهنية يتيح ضبط حجم الإنفاق بما يتناسب مع الإيرادات، مما يؤدي إلى تخفيض نسب الضرائب وتشجيع الاستثمار وتحفيز الاستهلاك.
في المقابل، حذر الخبير من أن غياب التخطيط الرشيد والإنفاق العشوائي يؤديان إلى عجز مالي متراكم، يجبر الدولة على رفع الضرائب أو اللجوء إلى الاقتراض، مما يضعف الثقة بالاقتصاد الوطني.
وأشار إلى أن العقد الأخير شهد اعتماداً متزايداً على التمويل بالعجز (تغطية النفقات عبر الاقتراض أو إصدار النقد)، وهو ما يترتب عليه:
تضخم الأسعار نتيجة زيادة الكتلة النقدية دون مقابل إنتاجي ، وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين ، وارتفاع كلفة التمويل الحكومي وتزايد عبء خدمة الدين العام.
الإنفاق “لكل يوم بيومه” يشل القطاعات

وانتقد قوشجي اعتماد سياسة الإنفاق اليومي دون خطة استراتيجية طويلة الأمد، مؤكداً أن هذا النهج ينعكس سلباً على مختلف القطاعات الاقتصادية بدءا من القطاع الصناعي: الذي يفقد القدرة على التخطيط والاستثمار بسبب غياب وضوح السياسات المالية.و القطاع الزراعي، الذي يتأثر بضعف الدعم والاستثمار في البنية التحتية، مما يحد من قدرته على تلبية الطلب المحلي ، والقطاع المصرفي الذي يواجه مخاطر متزايدة نتيجة عدم استقرار المالية العامة، ما يقلل من قدرته على تمويل المشاريع ، والقطاع الاجتماعي الذي يعاني من تراجع الخدمات العامة وارتفاع معدلات البطالة والفقر
وخلص الدكتور قوشجي إلى أن الموازنة العامة هي مرآة لسياسة الدولة الاقتصادية. فبينما يضمن إعدادها بمهنية استقراراً مالياً وتشجيعاً للاستثمار، فإن الإنفاق العشوائي والتمويل بالعجز يضعفان الاقتصاد ويقيدان قدرته على النمو. أما الإنفاق اليومي غير المخطط، فيؤدي إلى شلل في القطاعات الاقتصادية ويمنعها من تحقيق التنمية المستدامة، مما يتطلب تحولاً جذرياً نحو التخطيط الاستراتيجي.

آخر الأخبار