وداعًا زياد الرحباني.. .. رثاء: البيانو الأخير..

عبدالكريم بعلبكي
أمين سر تعاضد نقابة الفنانين في لبنان

#سوا نيوز :

(وُلِدَ الصَّوْتُ وَانْطَوَى، وَبَقِيَتِ الحُرُوفُ تَئِنُّ عَلَى وَتَرٍ مَكْسُورٍ..)

اليوم، يَنحني البحرُ أمام شاطئ بيروت، ويُغمضُ البيانو جفنيه.
رَحَلَ زيادُ، لا كمن يُغادرُ، بل كمن يُكمِلُ سيمفونيته في صمتِ الأبدية.

لقد حملتْ مِزْهَرِيَّتُهُ أَصْوَاتَ المدينةِ الجريحةِ، حكاياتِ العابرين في زمنِ الرصاصِ والياسمين، فأبدعَ لُغَةً من رُضَابِ الواقعِ المُرِّ، وسخريةٍ تحملُ فجراً.
لم يكن زيادُ مجردَ وارثٍ لأسطورةٍ فنية، بل زلزالًا هزَّ جدرانَ التقليدِ، فخلقَ عالمًا تخطفُ فيه الكلمةُ أضواءَ المسرح، ويُصبحُ فيه الحزنُ نغمًا يرقصُ على جراحِ الناسِ.

من رحم الأسطورة.. إلى وجع المدينة

وُلِدَ عام 1956، بين أحضانِ فيروزِ وعاصي، لكنه نبتَ كزهرةٍ شائكةٍ في حقلِ الأسطورةِ.
في السادسةِ من عمره، قال لألحان والده: “أجمِلْ يا أبَتَاهْ!”، وفي السابعةَ عشرةَ لحَّنَ “سألوني الناس”، كأنَّ القدرَ يُهيِّئهُ لحملِ المئزرِ الفنيِّ وحيدًا.

لم يكتفِ بترانيمِ الجبلِ التي صاغها الرحابنة، بل نزل إلى قاعِ المدينة، حيثُ الحربُ الأهليةُ تُحيلُ الحبَّ إلى رصاصةٍ.
مسرحياته — من “نزل السرور” إلى “شي فاشل” — كانت مرايا تُري اللبنانيين وجوهَهم الملطخةَ بدمِ الطوائف.
فخلق جيلًا رأى فيه صوتهَ الضائعَ بين ركامِ العنفِ.

“في ظلِّ الحربِ، فرضَ زيادُ نفسَهُ كصوتِ جيلٍ عالقٍ في المرمى..” — أكثم اليوسف

لغة ضد اللغة: عندما كتب زيادُ الشارعَ بالحبرِ الأسود

هدمَ زيادُ سلطةَ اللغةِ البيضاءِ التي صنعها الرحابنة. لم يكتبْ عاميَّةً، بل كتب لغةَ الشارعِ القحةَ:

مفرداتُه كالرصاص: “خسّ”، “زيتون”، “كميون”، “لايت” — كلماتٌ بلا أقنعة.

سخريتُه السوداء: من فشلِ زواجه في “مربى الدلال”، إلى الألمِ الذي يُضحكُ في “بصراحة”.
• موسيقاه تمردٌ صريح: مزيجٌ من الجازِ والإيقاعاتِ الشعبية، كأنها صرخةٌ ضدّ السكون.

لقد كانت كلماته “لغةً ضدَّ اللغةِ”، كما في “شي فاشل”، حين حطم أوهام “لبنان الحلو”، وبثّ قُبحَ الواقع في لحنٍ ساخر.

الحبُّ كجرحٍ متجدِّد: سيرةُ القلبِ المنكسر

حملتْ أغانيه وجعَ علاقاتِه العاطفية، فكانت مرآةً لمسرحهِ المأساويّ:
زواجُه من دلال كرم تحوَّل إلى “مربى الدلال”، وانتهى بانفصالٍ وحربٍ حرمته من ابنه.
أما علاقته الطويلة مع كارمن لبس، فكانت شرارةَ “ولعت كتير”، واعترفَ قائلًا:
“لستُ قادرًا على منحِ المرأةِ استقرارًا.. حتى كارمن هجرتني بحقٍّ”.

كان قلبُه مفتوحًا على جرحِ المدينة، يُحبُّ كما يكتبُ: بصدقٍ وفوضى.

الفنُّ والموقف: المطرقةُ والسندانُ

شيوعيٌّ، علمانيٌّ، مقاومٌ، في مجتمعٍ مذهبيٍّ لا يحتملُ الصوتَ الخارجَ عن السرب.
لم يُخفِ مواقفه:

دعمَ المقاومةَ ضد الاحتلال، وهرب إلى غربِ بيروت بعد مجزرة تل الزعتر.

هاجم الفساد والساسة في “بخصوص بكرا شو؟”، حيثُ كانت أغانيه منشوراتٍ تُقرأ على نغمةِ التمرّد.

لقد صنع من الفنِّ ساحةً للمعركة، ومن البيانو منصةً للصراخ.

الوداعُ الأخير: حين يُغلقُ البيانو جفنيه

في 26 تموز 2025، أغمض زيادُ عينيه. لا كمن يرحلُ، بل كمن يتحوّلُ إلى نغمةٍ عالقةٍ في ذاكرةِ المدينة.
عادَ إلى جبالِ لبنان، لا كأسطورةٍ، بل كبذرةٍ من شوكِ الحقيقة.

تركَ لنا:

موسيقى تُنبئُ بالمطر: “البوسطة”، “سلملي عليه”، “إيه في أمل”
مسرحًا يصرخُ: “أنتم شي فاشل!”

لغةً سالَت من عروقِ الناسِ كحبرِ الثورة.

“زيادُ هو الوحيدُ الذي كتبَ المحكيةَ بدمِ الشارعِ.. لغةً حيةً تُولَدُ من رحمِ اللحظةِ” — فوزي يمين

وَسَقَطَتْ أوراقُ البيانوِ الأخيرةِ كأجنحةِ حمامٍ ميتٍ..
عُدْنا إليكَ يا صَديقَ اللهِ، فمَنْ لنا بعدَكَ بصوتٍ يَحمِلُ قلبَ المدينةِ المثقوب؟
غِبْطاً لروحكَ الثائرةِ.. التي صارت نغماً في صمتِ الخلود.

آخر الأخبار